بسم الله الرحمن الرحيم أن تكون القراءة حفظا مثل حافظ القرآن وغير الحافظ ؛ مثل اثنين في سفر .. الأول : زاده التمر ، والثاني : زاده الدقيق ، فالأول : يأكل متى شاء وهو على راحلته ، والثاني : لا بد له من نزول ، وعجن ، وإيقاد نار ، وخبز ، وانتظار نضج .. قال الله تعالى {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت :49] والعلم مثل الدواء .. لا يؤثر حتى يدخل الجوف ، ويختلط بالدم ، وما لم يكن كذلك فإن أثره مؤقت .. ومثل الجهاز المزود ببطارية والجهاز الذي ليس كذلك ، الأول يمكن أن يشتغل في أي مكان أما الثاني فلا بد من مصدر كهرباء . وحفظ القرآن له أثرٌ على زكاة القلب وصلاحه .. والقلب هو الآلة التي يتم بها التدبُّر والتفكُّر .. عن ابن عباس رضي الله عنه قال : "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" .. ومن المعلوم أن البيت الخرب هو مأوى الشياطين فكذلك القلب الخرب الذي ليس فيه شيء من القرآن ، أما القلب العامر بحفظ القرآن فلا يقربه شيطان ، وبإذن الله تعالى لا يتمكن من إيذائه . وقال ابن مسعود : " إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره" [مصنف ابن أبي شيبة (6:126)] وحفظ القرآن يفتح المجال للتفكير في آياته ، في أي مكان وفي أي زمان وعلى أي حال .. وهذا يعطي قوة في التفكير والتدبُّر ، ويعطي أيضًا قوة في الربط المباشر السريع بين آيات القرآن وبين ما يصادف المسلم من وقائع وحوادث في الحياة اليومية . يقول أبو عبد الله بن بشر القطان : "ما رأيت رجلاً أحسن انتزاعًا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد ، وكان جارنا ، وكان يديم صلاة الليل ، وتلاوة القرآن ، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه ينتزع منه ما شاء من غير تعب" [سير أعلام النبلاء (15:521)] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "أنا جنتي وبستاني في صدري أَنَّى رُحْتُ فهي معي" ، وهو يريد بذلك القرآن والسنة التي في صدره تثبته وتزيده يقينا .. فهو يستحضر ما حفظه من القرآن والعلم النافع متى شاء . وقال سهل بن عبد الله لأحد طلابه : أتحفظ القرآن ؟ قال: لا .. قال : واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن ! فبمَ يترنم ؟ فبمَ يتنعم ؟ فبمَ يناجي ربَّه ؟! هذا المقصود من كون الحفظ أحد مفاتح التدبر ؛ لأنه متى كانت الآية محفوظة تكون حاضرة في الذهن ، ويتم تنزيلها على النوازل والمواقف التي تمر بالشخص في الحياة اليومية بشكل سريع ومباشر ، أما إذا كان القرآن في الرفوف فقط؛ فكيف يمكن لنا أن نطبقه على حياتنا ؟! العلاقة بين الحفظ والتدبر إن علاج أي مشكلة له ثلاث صور : الأولى : المعالجة الذهنية المجردة الشفهية .. من غير تحرير ولا ترتيب للحلول . الثانية : المعالجة المكتوبة المحررة المرتبة .. من دون حفظ أو استذكار لمضمونها . الثالثة : المعالجة الذهنية لشيء مكتوب مسبقًا ، ومحرر .. بمعنى حفظ ما تم التوصل إليه في علاج المشكلة كتابيًا .. وهذه هي أقوى الصور ، تليها الثانية ، ثم الأولى . وحفظ القرآن وتكرار قراءته هو من النوع الثالث .. فترديد الآية والتفكر فيها وهي محفوظة أفضل من تكرارها نظرًا ؛ لقوة تأثيرها على النفس ولأن مفعولها يستمر ، بينما الطريقة الثانية يقف مفعولها عند إغلاق المصحف . إن الهدف من حفظ القرآن : حفظ ما تضمنه من العلم بالله واليوم الآخر .. ذلكم العلم الذي يعالج جميع قضايا الحياة ويحل كل المشاكل ويحقق السعادة والحياة الطيبة للإنسان ، ويحقق له الثبات في الأزمات ، والقوة للأمة في مواجهة أعدائها .. هذا هو الهدف الأهم لحفظ القرآن والذي ينبغي أن يركز عليه القائمون على التربية . وحفظ الألفاظ وسيلة وليس غاية .. وسيلة إلى حفظ المعاني ، والانتفاع بها في الحياة . أما الاقتصار على حفظ الألفاظ ، فهو قصور في حق القرآن العظيم .. وهو انحراف عن الصراط المستقيم في رعايته والإنتفاع به في الحياة الدنيا والآخرة .