بسم الله الرحمن الرحيم رحل عنا ضيفٌ كريـــم ، قد عرفنا معه لذة الطــاعة والقُرب من الرحمن ، إنه رمضــان الذي أيقظنا من غفلتنا وأحيا قلوبنا ، ووهِبنا معه الخشوع والخضوع ، ومُلأت قلوبنا بحب الله العظيــم ونبيه الكريم وكل قلب مؤمن يشعر بألم فراق . هذا الضيف الغالي ويخشى ألا يتقابل مرة أخرى معه ويتساءل الكثيرون : كيف الثبـــــات على الطاعات بعد رمضـــان ؟ فإلى كل من يخشى على نفسه العودة للغفلة والوقوع في وحل المعاصي بعد رمضان ، إليك هذه الوصايا الهامة ، لكي لا يضيع منا رمضان مثل كل عام ويكون مجرد لحظات جميلة نقضيها على مدى شهر ثمَّ بعدها ينتهي الأمر . وصايــــا هامة في فقه الطريق بعد رمضـــان . أولاً : احذر مكر الشيطـان المُصفد منذ شهر كامل ، فهو أعدى أعداءك وقد مُنع من كيده لك طوال شهر رمضــان ، فسيعود بكل حقد وغِل لكي يوقعك بعده من خلال ثلاث طُرق : 1) أن يوقعك في الذنوب والتقصير لكي تيأس ، فبعد أن كنت عاهدت ربك على عدم الوقوع في الذنوب بعد رمضان ، يجعلك تقع في هذه الذنوب لكي تيأس وتُحبط ، قال تعالى { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 29] كأن تُضيِّع صلاة الفجر ، بعد أن كنت قد أقسمت على نفسك أن تُدرك جميع الصلوات في أول وقتها . فعليك أن تستدرك ما فـــاتك ، إذا أوقعك في ذنب ، استدركه بالاستغفـــار والإستعاذة بالله من الشيطــان الرجيـــم ، وتحداه وأعزم على ألا يهزمك مرةً أخرى . 2) الإعجــــاب بالعمل لكي يحبـــط ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث مُهلكــــات : هوى متبع وشح مطاع واعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن" [رواه البيهقي وحسنه الألباني] . والعُجب هو سبب الإنتكاس والفتور الذي يحدث بعد رمضــان، كما قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد : 25] وعلامة الإعجـــاب : أن تتوقف عن العمل ، فيجعلك تكتفي بالأعمال التي قمت بها في رمضان ولا تزد عليها .. فاحذر ! 3) الغرور وطول الأمل ، قال تعالى {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء : 120] فيجعلك تركب بحر الأماني ، ويُضيع منك الفرص بحجة أن هناك فرص أخرى كثيرة لكي تعوض ما فاتك ، بل لابد أن تتخذ القرار بالتغيير الحقيقي ، لأن هذه هي علامة قبول رمضـــان . لذا عليك أن تقف وقفة حساب ومُعاتبة مع النفس . وتضع خطة إيمانية لكي تستمر على الطاعات بعد رمضان ، فتُحدد أهدافك الإيمانية التي ستعمل عليها من شوال حتى رمضان القادم إن شاء الله . ولابد أن يكون هدفك واضح ومحدد وواقعي . قابل للقياس وليس مجرد شعارات ، فإن حددت أن تحفظ عدد مُعين من أجزاء القرآن هذا العام ، لابد أن يكون مقدار حفظك مناسب لإمكانياتك وقدراتك ، فلا تقل سأحفظ جزء يوميًا مثلاً ، ووقتك وقدراتك لا يسمحان بذلك فتقع في اليأس والإحباط . آفات عليك أن تسعى لتطهَّير نفسك منها عليك أن تُحدد ثلاث آفات وعادات سيئة تعاني منها ، وتحدد لها برنامج عملي دقيق للتخلص منها خلال الفترة القادمة ، وتتضرع إلى الله عز وجلَّ كي يُخلصَّك من هذه الذنوب والآفات . ومن الآفات التي عليك أن تسعى لتطهَّير نفسك منها أ) التكاسل عن الطاعة ، فإذا عَلِمَت إنك متكاسل عن الطاعة ، وأدركت إن الكسل من علامات النفاق كما قال تعالى { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى } [النساء : 142] تنشَّط واشحذ همتك كي لا تكون على هذا الخطر الكبير . واستدفع الكسل بهذا الدعاء ، الذي كان يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات" [رواه أبو داوود وصححه الألباني] ب) التباطوء في الطاعات ، أو مَنْ وجد نفسه متباطئة في الطاعات جريئة على الفتن ، وهو يعلم أن هذا من أسباب عذاب القبر ؛ لأن العمل الفاجر يأتي صاحبه في القبر فيقول : "أنا عملك الخبيث كنت بطيئا عن طاعة الله سريعا في معصيته فجزاك الله بشر" [صحيح الترغيب والترهيب] فلم يرضى بهذا الحال لنفسه وقرر أن يكون من المُسارعين في الخيرات . جـ) الشُح ، وآخر وجد نفسه شحيحة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا" [رواه النسائي وصححه الألباني] فخاف على نفسه من الوقوع في الكفر ، وقرر أن ينجح مع الله تعالى . د) الريـــاء ، وهذا وجد إن نفسه تُحب أن يرى الناس أعمالها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" [صحيح الجامع (1555)] فيأخذ القرار بأن يُعلِّم نفسه الإخلاص ، وهذا بأن يُخلِّص قلبه من إلتفاته للناس فلا يكون لهم وزن في قلبه . لذا يُكثِّر من أعمال السر ، التي لا يطلع عليها أحد سوى الله عز وجل ويدعو الله أن يرزقه الإخلاص . هـ) الغفلة ، وهي السبب في الطبع الذي يحدث على القلب ، فتقف في الصلاة ولا تفقه شيئًا مما يُقال ، قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] ولقد جــاء علاج الغفلة في الآية التي تليها ، فقال تعالى { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] فتعرَّف على ربك عز وجلَّ من خلال معرفة أسمائه وصفاته ، لكي تتحطم الأقفال التي على قلبك وتُخرِّج الدنيا التي طبعت عليه منه . ثانيـــًا : الخوف من عدم القبـــول هو طريقك إلى القبــول ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة : هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟، قال "لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات" [رواه الترمذي وصححه الألباني] فعليك أن تكون دائم الخوف من عدم القبول وتُكثِّر من الدعــــاء أن يتقبَّل الله منك عملك . ثالثًا : الثبــــات على الطاعــــات بعد رمضان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك" [صحيح الجامع (2152)] ، لذا تجد نفسك غير قادرًا على المواظبة على الطاعات التي كنت تقوم بها في رمضان . ولمواجهة الفتور الذي يحدث بعد رمضـــان 1) عليك أن تداوي قلبك بالإستماع إلى القرآن الكريم والمواعظ ، قال تعالى {..وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ، وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66,68] فتكون سببًا في إزالة الغفلة والطبع الذي على القلب . 2) العلم والتوحيـــــد ، يقول الله عز وجلَّ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] .. وعليك أن تُكثر من الثناء عليه ومدحه سبحانه ، فإن الله تعالى يقول {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران : 51] فالإستقامة تأتي من معرفتك بالله جلَّ وعلا . 3) الإخلاص وتطهير القلب من أي شيء سوى الله جلَّ وعلا . 4) تجديد التوبة والإنــــابة ، فالتوبة هي أول منازل العبودية وأوسطها وآخرها ، وبعد أي عمل لابد أن تتوب من تقصيرك فيه ، كما إن الذنوب هي سبب الوقوع وعدم الثبــات على الطاعة ، وبتجديد التوبة يوفقك الله عز وجلَّ للهداية بعد رمضــان ، كما في قوله تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] 5) الشكر ، يقول تعالى {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144] فالشكر سيحميك من الإنتكاس . فعليك بإدمـــان الحمد ، عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أن أعرابيًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : علمني دعاء لعل الله أن ينفعني به ، قال : "قل اللهم لك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله" [رواه البيهقي وحسنه الألباني] 6) حسِّن خُلقك ، وتحلى بالحلُم في معاملة الناس حتى وإن أساؤوا إليك ، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإستقامة وحُسن الخلق حينما أوصى معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فقال : "استقم وليحسن خلقك" [رواه ابن حبان وحسنه الألباني] وقال صلى الله عليه وسلم : "إن المسلم المسدد (أي : المُستقيـــم) ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه وكرم ضريبته" [صحيح الجامع (1949)] 7) إستقـــامة اللســـان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " [رواه أحمد وحسنه الألباني] 8) الإستقامة على أعمال صالحة دائمة ، وكلما زادت أورادك الثابتة التي تستديم عليها ، أرتقت منزلتك عند الله جلَّ وعلا . وإذا أردت الإستقامة ، لُذ بالحي القيــــوم كي يُقمك على دربه . ها هو رمضـــان يُنـــاديــــك : أرجـــوك لا تتركني ، بعد أن تذوقت معه لذة الصيـــام والقيــــام وتلاوة القرآن والقُرب من الرحمن . فإيـــــــاك أن تتركه .. واحذر أن يُضلك الشيطــــان عن الطريــــــــــق !!