العفو والتسامح وكظم الغيظ وضبط النفس عند الغضب والمصائب من الأخلاق الإسلامية العظيمة ، الذي هو أبلغ في التعبير من الكلمات ، وأقوى في التأثير من العبارات والمقالات ، وأوضح في الخطاب من ضوء الشمس ، وأهدى في معناه من نور القمر ، وهو يدل على قوة الشخص ، وعلى سلامة النفس من الغل والحقد والحسد وعلى صفاء القلب من الروح العدوانية ، إن التحلي بالعفو يريح النفس ويطمئن القلب ، كما يريح الأعصاب ويغني عن كثير من الأدوية ، لأنه يجعل صاحبه بعيدا عن توتر الأعصاب والقلق والاضطراب ، وارتفاع ضغط الدم الذي يسبب كثيرا من الأمراض ، وذلك لأن صاحب القلب الخالي من العفو يملأ قلبه بالغل والحقد والحسد والتشفي والأخذ بالثأر ، وهذا كله إعصار وبركان في النفس لا يهدأ حتى ينتقم فيقع فيما يندم عليه فيما بعد والعفو : من أسماء الله الحسنى " إن الله كان عفوا غفورا " ومعناه : أنه كثير العفو . والعفو : صفة من صفات الله تعالى ، ولولا عفوه تعالى عن خلقه ما ترك على الأرض من دابة ، قال الله تعالى " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " والعفو : لولاه ما رزق الله تعالى عباده ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"ليس أحد أو ليس أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم ليدعون له ولدا ، وإنهم ليعافهم ويرزقهم" . والعفو : هو خلق الأنبياء والمرسلين في عفوهم عن أقوامهم وهم يؤذونهم ويعذبونهم . والعفو : هو خلق العظماء والسادة من الناس ، وليس خلق الضعفاء والعبيد . والعفو : هو خلق الكرام من الناس وليس خلق الحقراء والأراذل من الناس . والعفو : يورث حب الله قال تعالى :" والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" والعفو : يورث حب الناس فإن الناس يحبون من يعفو عنهم . والعفو : يورث العز في الدنيا والآخرة قال (صلى الله عليه وسلم):" ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ". والعفو : سبب مغفرة الله تعالى " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " والعفو : هو سر الحب المستمر بين المحبين ، وهو علامة على حب الله للعبد الذي يتخلق به ، وهو فرصة لتقارب القلوب والتآلف بينهما ، وهو يريح من الكثير من الأمراض التي تدمر الأعصاب ، فمن عفا عن الناس عفا الله عنه ، ومن سامح الناس سامحه الله . فمن أراد أن يعفو الله عنه فعليه أن يعفو عن الناس ، ومن أراد أن يسامحه الله فعليه أن يسامح الناس . وأهل العفو : هم أهل الإحسان ، وهم أحباب الله تعالى ، وهم الأقوياء العظماء الكرام . هو العفو فعفوه وسع الورى *** لولاه غارت الأرض بالسكان العفو في القرآن الكريم قد أشار القرآن الكريم إلى العفو فقال تعالى " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا "وعفو الله تعالى مع قدرته على خلقه هو العفو عند المقدرة ، وليس أحد أقدر على الخلق من الخالق ، ومع ذلك يعفو عنهم . وقد جعل العفو من عزم الأمور قال تعالى " ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور " وأمر تعالى بالعفو في قوله تعالى " وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " ومن من الناس لا يحب أن يغفر الله له ؟! فلماذا لا يعفو ؟ وأمر الله نبيه بالعفو فقال " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " ومدح العافين عن الناس ووصفهم بالمحسنين فقال تعالى " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " وجعل أجر العفو على الله وليس على الناس فقال تعالى " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " .. وهذا العفو ليس من مدير ولا رئيس ولا وزير ولا سلطان ولكنه من الله ، والله هو الجواد الكريم فلا يجعل أجر العفو إلا الجنة ، كما قال تعالى " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " والحظ العظيم هو الجنة ، قال قتادة : الحظ العظيم هو الجنة . كما ذكر القرآن عفو يوسف عليه السلام عن إخوته بعدما فعلوا ما فعلوا به وقال لهم " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" فهو لم يعاتبهم على ما فعلوا به ، بل عفا عنهم دون أي كلمة لوم أو توبيخ . العفو في السنـــــة السنة بها العديد من الأحاديث والمواقف النبوية التي تمدح العفو وتحث عليه ومنها : حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب . قال ابن عثيمين رحمه الله : "لأن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فيفور دمه ، فإن كان قويا ملك نفسه وإن كان ضعيفا غلبه الغضب ، وهذا الإنسان الذي لا يملك نفسه عند الغضب يكون قلبه به الكثير من الغل والحقد والحسد وروح العدوان وإيذاء الآخرين" . ويبين صلى الله عليه وسلم أن العفو يورث العز ففي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" . وقال صلى الله عليه وسلم :"من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة فيخيره من الحور العين ما شاء" وقال أيضا :"حرام على النار كل قريب لين سهل قريب من الناس" . وهل هناك عفو مثل عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعرابي الذي جاء والنبي نائم تحت شجرة وسيفه معلق بها فأخذ السيف واستيقظ النبي والسيف في يده وهو يقول : من يمنعك مني يا محمد فقال النبي عليه الصلاة والسلام : الله ، فسقط السيف من يده فأخذه النبي وقال : ومن يمنعك مني فقال : كن خير آخذ يا محمد فعفا عنه وهو الذي أراد قتله ، فرجع إلى قومه يقول لهم جئتكم من عند خير الناس. فأي عفو أعظم من هذا . ولأهمية العفو نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء وخاصة في ليلة القدر : "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" . والأحاديث كثير جدا والمواقف أكثر لكن نكتفي بهذا . أقوال في العفــــو قال أبو بكر : بلغنا أن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادي من كان له عند الله شيء فليقم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس . قال معاوية : عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال . وقال : لو كان بيني وبين الناس شعرة ما قطعت إن جذبوها تبعتهم وإن جذبتها تبعوني لكي لا تنقطع .وهذا ابن مسعود رضي الله عنه : ذهب ليشتري الطعام فلما أراد أن يدفع الثمن وجد أن الدراهم سرقت فدعا الناس على السارق ، فقال ابن مسعود : اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها ، وإن كان حملته جراءة على الذنوب فاجعله آخر ذنوبه . فالمسلم هينا لينا سمحا نقيا ، سهلا عفوا قريبا من الناس ، متوددا إليهم ، باذلا لهم ، ناصحا إياهم، ملتمسا لهم الأعذار في تصرفاتهم . قال ابن القيم رحمه الله : "يا ابن آدم إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو وإنك تحب أن يغفرها لك الله، فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده ، وإن أحببت أن يعفو عنك فاعف أنت عن عباده ، فإنما الجزاء من جنس العمل" . وهذا عمر الفاروق : يعفو عن الناس جميعا ويقول : كل الناس مني في حل . وهذا عمر بن عبد العزيز يقول : إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها . إن مما يشرف الله به النيات ويرفع به الدرجات أن تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعــــــــك . قال أنس : في قوله تعالى" ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" قال : هو الرجل يشتم الرجل فيقول له إن كنت كاذبا فغفر الله لك وإن كنت صادقا غفر الله لي . آثار العفـــــــو للعفو آثار طيبة وعظيمة على العبد في الدنيا والآخرة على الفرد والمجتمع ، فما ذكرنا سابقا هو راجع في الغالب على العبد في الآخرة من الثواب العظيم والرفعة والجنة . أما في الدنيا فراحة النفس وطمأنينة القلب وهدوء البال وسلامة الأعصاب وصحة الجسد ، وسعادته في الدنيا وهذا كله يعود على الفرد . أما على المجتمع : فتآلف القلوب وتماسك الصفوف وطهارة المجتمع من أمراض الغل والحقد والحسد وقلة الجرائم من السرقة والقتل ، غير ذلك من قلة القضايا التي تثقل كاهل القضاة في أمور تافهة من جراء عدم العفو والصفح . وختاما : نقول لو أن الناس أخذت بالعفو لحفظوا قلوبهم من أمراض الغل والحقد والحسد . "والله نسأل أن يجعلنا من أهل العفو والصفح ، حتى نكون من المحسنيــن" اللهم آآآمين