طبيعة السبيـــل إلى الله عزَّ وجلَّ لقد وردت الأصول لمعرفة الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ في سورتي المزمل والإنسان ، التي وضحت لنا الأسس والدوافع لاتخاذ السبيـل إلى الله تبــارك وتعالى . أُسس السيــر إلى الله تعالى من سورة المزمل . الأساس الأول : المنهج الربَّاني لإدارة الحيــــاة . قال تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (*) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (*) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (*) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (*) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (*) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (*) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (*) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل : 1,8] فوضحت لنا السورة الكريمة الأربعة الأسس التي ينبغي أن يُقيم عليها العبد سيرهُ إلى الله تعالى ، وبها يكون الثبــات والإستقامة ، وتلك الأسس هي : 1) القيــــام ، ولن يكفيــك مجرد ركعتين قصيرتين قبل الفجر ، وإنما أن تقوم الليـــل وتقضي لحظــات المنــاجــاة للتعرُّف على ربِّكَ عزَّ وجلَّ . 2) تلاوة القرآن ، ولن تُجدي القراءة السريعة بهدف جمع الحسنـات ، إنما أن تُرَتِل القرآن وتتذوق كلماته وتستشعر معانيه ؛ فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبُّر والتفكُّر ، وتحريك القلوب به ، والتعبد بآياته ، والتهيؤ والإستعداد التام له [تفسير السعدي] حتى يوفقك الله سبحانه وتعالى للسير في طريقه المستقيم . 3) ذكر الله سبحانه وتعالى ، وقد بينت الآيات أن الإنسان سينشغل في أعماله اليومية وسيقع تحت سطوة الغفلة ؛ لذا عليه أن يتحصَّن بذكر الله تعالى وبذلك يقي نفسه من شر فتن الدنيـــا فليكن شعارك دائمًا : اعمل ولا تغْفَل ،، 4) التبتُل ، خُذ بحظك من العزلة وانقطع إلى الله تعالى ، فإن الإنقطاع إلى الله والإنابة إليه ، هو الإنفصال بالقلب عن الخلائق ، والإتصاف بمحبة الله ، وكل ما يقرب إليه ، ويدني من رضاه . [تفسير السعدي] الأساس الثاني : التوكل على الله تعالى وعدم الركون على الأسبـــاب . قال تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل : 9] وفيها تذكرة للعُبَّاد أن كل ما سخره الله تعالى لنا ما بين المشرق والمغرب مربـوبٌ لله عزَّ وجلَّ ، فتوكَّل على مُسبب الأسباب ولا تركن إلى السبب . وفي الطريق سيحدث منك التفاتًا يمنة ويسرى، فيركن قلبك على الدنيا والمال وينشغل بالنعمة عن المُنْعِم ، والله سبحانه وتعالى هو ربُّ المشارق والمغارب ، فاتخذه وكيلاً وفوِّض أمرك إليه ، لا تركن بقلبك على السبب ، وتذكَّر دائمًا أن الله تعالى هو الوكيــــل . الأساس الثالث : الصبـــر على الإبتــلاء وهجر المخالفين . قال تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل : 10] تذكرة للعُبَّاد بأن الدنيا دار ابتلاء وفتن، وأنه لا سبيل للنصر إلا بالصبــــر ، وأنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين ، ومما يُعين العبد على ذلك هجر المخالفين والإبتعاد عن البيئات المفتنة والمثبطة . ففي الطريق إلى الله تبارك وتعالى لابد أن تؤذى ويعاديك الأعداء وتلقى وساوس من الشياطين ، وستجد من يتهمك بالفشل والضلال والكثيــر مما يصدك عن سبيـــل الله ، وقد تستمع لتثبيطهم أحيانًا وتُبتلى لتمحيص إيمانك وصدقك . فاصبر على إيذائهم وابتعد عنهم ولا تنصت لما يلوِّث قلبك . اهجر بيئة الدنيـــا المُفتنة ،، الأساس الرابع : الجحـــود أصل الكُفران . قال تعالى {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل : 11] فأصل الإنحراف والزيغ عن الطريق المستقيم ، هو : جحـــود نعمة الله تعالى على العبد وعدم شكرها ، فهو ينسب النعمة لنفسه وينسى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنعم بها عليه ، فيكون جزاؤه العذاب الأليم ؛ فإن الله تعالى يُمهِل ولا يُهمِل . والشكــر ركن الإيمان الأعظم . وبدونه لن تؤسس إيمانك . وبعد أن ذكَّرت السورة الكريمة بيوم الميعاد وأهواله . قال الله عزَّ وجلَّ {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل : 19] أما في سورة الإنسان ، فكانت التذكرة بما يلي : أولاً : الحكمة من الخلق هي اختبـــار الكفر والإيمان . فتبدأ السورة بتذكرة الإنسان بأصله وأنه لم يكن شيئًا يُذكَر ، قال تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (*) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان : 1,2] فيذكره بأصله ؛ حتى لا يغتر ويعصي ويخــالف ربَّه . قال تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان : 3] ثمَّ ذكر أن الله سبحانه وتعالى قد هدى الإنسان وبيَّن له الحلال والحرام وفرَّق له بين طريق الهدى وطريق الضلال ؛ فمنهم مَن سيشكر ويؤمن ، ومنهم مّنْ سيجحد مما يوقعه في الكُفر . فمن أصول الهدايـــة : شُكــر النعمة . وأن أردت أن تُكمِل الطريق ، عليك بالشكر . قال تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم : 7] ثانيًا : صفــات المؤمنيــن الفائزين بجنــات النعيــم . بعد أن وصفت السورة بداية الطريق ومعالمه ، ذكرت نهاية الطريق ومصير كلا الفريقين ، قال تعالى {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (*) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان : 4,5] ثمَّ ذكرت صفات أهل الإيمان ، التي بها سيُبلَغون نعيم الجنــان . 1) الوفــاء في مقابل الخيانة {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ..} [الإنسان : 7] 2) الخــوف في مقابل الجرأة {.. وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان : 7] 3) البـذل في مقابل شُح النفس {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان : 8] 4) الإخلاص في مقابل الريــــاء {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] وكان الداعي الذي دعاهم للإيمان وفعل الصالحات ، هو : الإيمان بالآخرة والخوف من أهوالها {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان : 10] فنالوا الثمرة وبلغوا هدفهم الأسمى {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (*) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان : 11,12] وبعد أن وصفت السورة الجنة ونعيمها وصفًا دقيقًا ، أكدت على الأسس اللازمة لسير الإنسان في الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ ، وهي : 1) القيــام .. 2) تلاوة القرآن .. 3) الذكر ليلاً ونهارًا .. 4) الصبر والإنقطاع لله تبارك وتعالى . فقال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (*) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (*) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (*) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان : 23,26] ثمَّ قال تعالى مؤكدًا {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان : 29] ووقود الطريـــق ، هو : الرحمة . {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان : 31] اللهمَّ اهدنـــا إلى ســواء السبيـــل ،،